فى نهاية المرحلة الابتدائية، حفظت «الميثاق» عن ظهر قلب، استعداداً لمسابقة تتنافس فيها المدارس، اسمها «مسابقة الوعى القومى». حصلت مدرسة العجوزة الابتدائية على المركز الأول لأننى أنا وزملائى كنا نردد كالببغاوات عبارات الميثاق البليغة البراقة مثل: «إن الكلمة الحرة ضوء كشاف أمام الديمقراطية السليمة»، «إن حرية الكلمة هى المقدمة الأولى للديمقراطية»، «إن حرية النقد البنّاء والنقد الذاتى الشجاع ضمانات لسلامة البناء الوطنى»..

إلى آخر هذه الشعارات الجذابة التى كانت سذاجتى الطفولية تظنها تطبيقات واقع لا شعارات وهم، كنت غير مدرك لتناقض كبار الصحفيين الذين كانوا يحولون حديث الميثاق عن الحرية إلى مانشيتات، فى نفس الوقت الذى كان فيه رقيب بدرجة شاويش يشطب مقالاتهم بقلمه الأحمر البتار. كانت مُدرسة التاريخ تنتفخ أوردة رقبتها وتهتز من فرط الانفعال والنشوة وهى تحفِّظنا الميثاق، وعندما سألتها بعد أن داهمتها الشيخوخة عن سر هذا الانفعال، قالت: كنت مصدقة!

فى المرحلة الابتدائية نفسها وقبل هذه المسابقة بعدة سنوات كنت فى زيارة لأسيوط، حيث كان والدى منتدباً هناك، أثناء هذه الإجازة اندلعت مظاهرات التاسع والعاشر من يونيو، دخل علينا صديق وجار أبى الأستاذ توفيق وإصبعه ينزف، لقد قرر الأستاذ توفيق أن يجرح سبابته بشفرة الحلاقة لكى يكتب خطاباً بالدم للرئيس عبدالناصر يطلب منه عدم التنحى.. مشهد حفر فى ذاكرتى الطفولية المرتبكة بأزميل الخلود، قررت أن أحسم هذا الارتباك وأسأل الأستاذ توفيق بعد أن تحققت أمنيته فى بقاء ناصر على الكرسى وبعد أن تحول الجرح إلى ندبة مزمنة معوقة فى سبابته، رد قائلاً: كنت مصدق!

عندما كتبت عن أغانى الثورة الوطنية واصفاً إياها بأنها كانت أعمالاً عظيمة وكذبة عظيمة أيضاً، وكتبت عن بيع الوهم فى التماثيل الرخام وترسيخ الديكتاتورية والعبودية فى قول ما بدا لك إحنا رجالك ودراعك اليمين!! رد الشاعر بهاء جاهين دفاعاً عن والده صلاح جاهين، الذى أعشقه مثلما يعشقه بهاء بالضبط، قال بهاء: كان أبى مصدقاً هذه الشعارات، وكتبها عن اقتناع لا عن نفاق، وأنا بدورى أصدق كلام بهاء، ولكنى أقول إن هذا التصديق هو الكارثة التى أناقشها فى هذه المحاكمة!

أنا واثق من نزاهة مُدرسة التاريخ، وواثق من صدق مشاعر الأستاذ توفيق، وواثق أيضاً من حسن نية صلاح جاهين.. ولكن السؤال الذى لابد من طرحه: كيف صدق هؤلاء طيلة هذه السنوات، كيف تم هذا الخداع الجماعى الذى عطّل كل رادارات الاستقبال عند هذا الجيل، وشوش على قرون استشعار المثقفين منهم، فلم يقفوا عند حد الصمت الذى لو كانوا قد فعلوه لكفاهم فخراً، ولكن العكس قد حدث؟!

ماكينة صناعة الديكتاتورية انطلقت تستنسخ أغانى تمجيد وأوبريتات تفخيم وأفلام إشادة ومسرحيات مدح وتطبيلاً وتزميراً، فتحولت الهزيمة إلى مفاجأة وهى التى كان لابد أن تتحول إلى نبوءة.. صارت نكسة وهى فى الحقيقة وكسة. من يومها ونحن أمهر شعوب الأرض فى إطلاق أسماء الدلع على مصائبنا: الهزيمة صارت نكسة، وارتفاع الأسعار صار تحريك الأسعار، والكوليرا صارت أمراض الصيف، والرشوة صارت كباية شاى وعرق وحلاوة.